نشأة المذهب الحنفي
المذهب الحنفي يُعتبر الأول بين المذاهب الفقهية الأربعة الرائجة، وقد سُمّي بهذا الاسم نسبةً إلى الإمام أبو حنيفة النعمان. وتأسس هذا المذهب في مدينة الكوفة بالعراق، موطن الإمام أبو حنيفة.
برزت شهرة الإمام، حيث جذبت تعاليمه العديد من الطلاب، وانتشر مذهبه في مناطق متعددة مثل بغداد ومصر وبلاد فارس والروم وبخارى وجزء كبير من الهند والسند وبعض مناطق اليمن وغيرها.
لقد أدركت الأمة اجتهاد الأئمة الأربعة، بما في ذلك الإمام أبو حنيفة، نظرًا لدقة الأصول والقواعد التي قاموا بتأسيس فقهم عليها، بالإضافة إلى سمعتهم بالتقوى والورع، ووجود عدد كبير من تلاميذهم الذين قاموا ببناء شروحات وبيانات لمختلف الفروع، واجتهدوا في تعزيز الأصول والقواعد المؤسسة على يد هؤلاء الأئمة.
مؤسس المذهب الحنفي
اسمه ونسبه
هو النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه، وُلد في الكوفة سنة (80هـ = 699م). وكان جدّه من سكان كابل، وتم أسره خلال فتح بلاده ثم أُطلق سراحه. وكان أبو حنيفة من الأحرار – رغم كونه مولى – حيث لم يعرف الرق في عائلته، بل كان حر النفس.
ازدهر العلم في عصره بين الموالي، وقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية. وقد اعتُبر أحد أتباع التابعين، ويُقال إنه أدرك أربعةً من الصحابة، وهم: أنس بن مالك بالبصرة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة.
نشأته وسيرته
نشأ أبو حنيفة في أسرة علمية ودينية، وكان تاجراً قبل أن يتوجه إلى العلم بعد لقائه الشعبي، الذي لاحظ فيه ذكاءً وعمق فكر. طوّر الإمام دراسته للعلم دون أن يهمل نشاطه التجاري.
أشتهر الإمام بأمانته وكرمه في التجارة، كما تميز في علم الكلام حتى أصبح رائدًا فيه، وساهم في مناظرة أصحاب العقائد. بعد ذلك، انتقل لدراسة الفقه على يد كبار العلماء في عصره، وأسس مذهبه الفقهي، ليُلقّب لاحقًا بالإمام الأعظم.
صفاته
كان قوي الحجة وأسلوبه من أروع الأنماط، حتى عُرف عن الإمام مالك قوله: “رأيت رجلًا لو كلمته في السارية لجعلها ذهبًا لتمكنه من الحجة”. كما كان جوادًا، حسن المظهر، وجهوري الصوت.
كان عابدًا مشغولاً بقراءة القرآن الكريم، ورعًا في كسبه، وفضل العيش كتاجر عند تعرضه لوظائف الملوك وسلاطين بني أمية والخليفة أبي جعفر المنصور، حيث رفض الحوافز. وقد تعرض للسجن والأذى من جراء ذلك، ويقال إنه وافته المنية في سجنه.
طلبه للعلم واجتهاده في الفقه
حفظ القرآن ودرس الحديث، وله “مسند” جمعه طلابه، بالإضافة إلى “المخارج” في الفقه، التي رويت عنه بواسطة تلميذه أبو يوسف. وتُنسب إليه أيضًا رسالة “الفقه الأكبر”، على الرغم من وجود خلاف حول صحة نسبتها إليه. بجانب حفظ القرآن ودراسة الحديث، خاض أيضًا في مجالات النحو والأدب والشعر.
درس علم الكلام وأصول العقائد، وكان يجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد، وكرّس جهوده للفقه معبرًا عن اعتقاده بأن الفقه هو أساس أداء الفرائض وإقامة الدين.
اهتمام العلماء بالإمام وسيرته
حظيت مناقب الإمام أبو حنيفة باهتمام كثير من العلماء الذين وثقوا سيرته، ومن بينهم ابن عُقدة في كتابه “أخبار أبي حنيفة”، وابن همام محمد بن عبد الله الشيباني، وأبو القاسم القربتي في كتابه “قلائد عقود الدرر والعقيان في مناقب الإمام أبو حنيفة النعمان”.
انتشار المذهب الحنفي وازدهاره
كان تلامذة الإمام أبو حنيفة يتناولون الموضوعات الفقهية للدراسة والمناقشة على مدار أيام وشهور حتى يتأكدوا من الأحكام، وبعدها كان الإمام يأمرهم بكتابتها. وورد عن أسد بن الفرات أن الذين قاموا بتدوين العلوم من أتباع أبي حنيفة كانوا أربعين رجلاً، من بينهم:
- أبو يوسف القاضي.
- وزفر بن الهذيل.
- وداوود الطائي.
- وأسد بن عمرو.
- ويوسف بن خالد السمتي.
- ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة.
- محمد بن الحسن الشيباني.
ولقد تميّز العديد من مؤلفي كتب الفقه بسبب اجتهادهم، حيث أصبحت نصوصهم مرجعًا موثوقًا في نقل آراء أبي حنيفة وأبو يوسف.
انتشر المذهب الحنفي في بلاد المشرق وبلاد المغرب حتى عام 400هـ، حيث شمل جزيرة صقلية ومصر خلال عهد الخلافة العباسية، وهو لا يزال موجودًا وفاعلًا في الهند وتركيا.
الأصول العامة للمذهب الحنفي
ركز الإمام أبو حنيفة على مصادر التشريع، وهي الكتاب والسنة. وقد كان لديه مسند حديثي كما ذُكر، وكان متشدداً في قبول الأحاديث. وفي الفقه وأصوله، اعتمد على القياس والاستحسان. الأصول الأساسية لمذهبه هي: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، والاستحسان.
وقد ورد عنه قول معروف يوضح منهجه:
“آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسُنة رسول الله، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سُنة رسول الله، أخدت بقول أصحابه، فأختار من بينهم كما أريد، وأترك من أريد، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وخصوصًا إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب وآخرين.”
أهم علماء المذهب الحنفي
تتلمذ على يد الإمام أبو حنيفة مجموعة من الطلاب الذين كانوا من أبرز علماء المذهب:
- أبو يوسف (113- 182هـ): يعقوب بن إبراهيم الكوفي، اشتغل بالقضاء في عهد الرشيد، وله الفضل في تدوين أصول الفقه الحنفي.
- محمد بن الحسن الشيباني (132- 189هـ): تعلم الفقه على يد أبي حنيفة ثم أكمل على يد أبي يوسف، عاصر مالك بن أنس وأصبح رئيس الفقه في العراق بعد وفاة أبي يوسف، وله دور بارز في تدوين ونشر الفقه الحنفي.
- أبو الهذيل (110- 158هـ): زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي، كان من أصحاب الحديث، تعلم على يد أبي حنيفة وتخصص في القياس حتى اشتهر بكونه أكثر تلامذته علمًا.
- الحسن بن زياد اللؤلؤي (204هـ).
أهم كتب المذهب الحنفي
نال المذهب الحنفي شهرة واسعة في العديد من الأقطار، وتمت كتابة العديد من الكتب التي تشرح وتوضح أحكامه، منها:
- شرح السير الكبير للإمام السرخسي.
- المبسوط للإمام السرخسي.
- الهداية في الفروع للمرغيناني.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني.
- فتح القدير للكمال بن الهمام.
- حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين.
- أصول الكرخي.
- تأسيس النظر للدبوسي.